رأي تجديد

العراق... ملامح التبدل ونشأة واقع مغاير

كل المؤشرات الداخلية والخارجية حتى اللحظة تَشي بأن هناك تحولا جديدا في العملية السياسية العراقية، وكسرا لأنماط وقواعد الحكم وإدارة السلطة التي بُنيت عليها منذ العام ٢٠٠٣، قد تكون انتخابات ٢٠٢١ المبكرة هي الانطلاق لهذا التحول، ولكن إرهاصاته العملية بدأت في لحظة وصول مصطفى الكاظمي إلى منصب رئيس وزراء العراق الذي لم يُشغل منذ العام ٢٠٠٥ إلا من لدن أحزاب الإسلام السياسي الشيعي.

    أفرزت نتائج الانتخابات المبكرة خريطة انتخابية مُربِكة للفواعل السياسيين التقليديين، فمثّل حصول التيار الصدري على المركز الأول بفارق شاسع يزيد عن الضعف بقليل عن أقرب منافسيه في البيت السياسي الشيعي (دولة القانون)، أساسا من أسس التغيير السياسي المرجو في البلاد خاصة مع صعوبة تلاقي الطرفين في تحالف واحد، الأمر الذي حفز الصدريين على تحقيق مشروع "الأغلبية الوطنية" للقوى الفائزة كخارطة طريق لتشكيل الحكومة المقبلة، وهو سر "أزمة النتائج" المتفاعلة حاليا.

 لابد من الإشارة إلى أن قانون الانتخابات الجديد الذي اعتمد الدوائر المتعددة للمحافظة الواحدة مع اعتماد آلية المناصفة بين الترشيح الفردي أو الائتلافي، كان من أهم مفاتيح تغيير الخارطة النيابية والسياسية للمرحلة القادمة، حيث أن حداثة القانون وتطبيقاته لم تكن معهودة عند الأفراد والكيانات المتنافسة، فارتكبت مجموعة أخطاء في سياق ترشيح الأفراد والحملات الدعائية أدت إلى خسارة المقاعد على الرغم من كم الأصوات التي حصل عليها التحالف في عموم الدوائر الانتخابية.

تفاعلت أزمة نتائج الانتخابات وخسارة المقاعد المدوية التي مُنيت بها أحزاب وجماعات مسلحة بشكل وضع العراق على حافة الهاوية لاسيما في مشهد قصف منزل رئيس الوزراء بمسيرات ملغومة لم تعرف نتائج التحقيق فيها بعد، ونشب صراع سياسي حاد بأبعاد أمنية من خلال سلسلة تجمعات رافضة للنتائج تحاول بين الحين والآخر الاشتباك مع القوات الأمنية بنية مُعلنة لاقتحام المنطقة الخضراء، ولكن أغلب التوقعات تشير إلى أن تلك الجماعات لا تريد التورط فعليا في مواجهة السلطة والقوى الفائزة، ولكنها تضغط بكل ما هو متاح وغير متاح في سبيل التأثير في النتائج وتأخير إعلانها النهائي، لأغراض تفاوضية لعلها تُخضع التيار الصدري بتقسيمة حكومية تعتمد "الأوزان السياسية" لا "الأوزان الانتخابية" التي أفرزتها نتائج الانتخابات.

يمكن اعتبار هدوء الصدريين في التعامل مع أزمة النتائج القائمة رغم تراوحها ما بين التصعيد والتهدئة إلى اعتقادهم، أن مواقف القوى الرافضة للنتائج ستتبدل مع إعلان النتائج النهائية ومصادقة المحكمة الاتحادية عليها، فمن المتوقع أن تتشظى قوى سياسية -أفراد وجماعات- وتنظم الفاعل الأقوى والائتلاف صاحب الحظ الأوفر لتشكيل الحكومة المقبلة، وهذا السيناريو تكرر كثيرا في عديد مراحل العملية السياسية العراقية ولاسيما في العام ٢٠١٠.

يعد الإطار التنسيقي للقوى الشيعية هو الكيان الأبرز ترشيحا للتفكك بعد إعلان النتائج، فهو عبارة عن خليط من القوى غير المنسجمة انتخابيا وسياسيا على الرغم من ادعائها تمثيل الطيف الشيعي، فاحتواؤه على قوى خاسرة "قوى الدولة" وأخرى فائزة "دولة القانون"، وتيارات مدنية "نصر" وأخرى مسلحة ولائية "حقوق"، يحول دون أن يستمر ويكون له تأثير في مراحل ما بعد المصادقة على النتائج النهائية، والمستفيد بلا شك هم الصدريون.

يمكن القول أيضا أن الأفراد "المستقلين" الفائزين بالانتخابات لن يبقوا على استقلاليتهم التي بدأوها مع انطلاق الحملات الدعائية للانتخابات المبكرة، وسيخرجون عنها نحو البراغماتية ليكونوا ضمن قبان تشكيل الحكومة فيرجح بأصواتهم طرف على حساب طرف آخر.

شكل قرار مجلس الأمن الدولي المؤيد للانتخابات العراقية ونتائجها في مناسبتين مختلفتين، نقطة دعم فاعلة لنتائج العملية الانتخابية وجهود تشكيل الحكومة المقبلة، كما وضع القوى المعترضة على النتائج في حرج كبير ومواجهة مع المجتمع الدولي في حال الاستمرار برفض النتائج. وعبّر المجلس عن أسفه لـ "استخدام العنف لتسوية المظالم المتعلقة بالانتخابات"، داعياً جميع الأحزاب السياسية على اتباع الوسائل القانونية والسلمية لحل الأزمة. وبطبيعة الحال فإن الرسالة من هذا الدعم الأممي المتواصل لمخرجات العملية الانتخابية دون إعلانها بشكل نهائي، إنما هي رسالة للخاسرين الرافضين، بأن مواجهة النتائج لن تكون مع المفوضية أو حكومة الكاظمي لتصريف الأعمال، وإنما مع مجلس الأمن والمجتمع الدولي ككل بما يوجب التدخل لحماية "التجربة الديمقراطية" في العراق.

يعد الموقف الإيراني المرحب بنتائج الانتخابات والداعي إلى التعامل مع نتائجها، موقفا محرجا للقوى الولائية المرتبطة بإيران عقائديا وتنظيمياً، حيث تتجنب إيران وهي على أبواب المفاوضات النووية أي تصعيد محتمل في الساحة العراقية يؤثر في حيوية وحساسية محاولات رفع الحصار عن طهران واستئناف المحادثات، وهذا ما يُفسر المجيء العاجل لقائد فيلق القدس إلى بغداد في أعقاب محاولة اغتيال رئيس الوزراء الكاظمي وردود الأفعال المحلية والإقليمية والدولية التي أشارت إلى تورط أولي صريح لوكلاء إيران في العراق الأمر الذي أشعرهم بشديد الحرج.

تسير الأحداث في العراق رغم ضجيج الاعتراضات إلى القبول بالنتائج ومخرجاتها السياسية، وأغلب التوقعات تشي بأن هناك قبولا "شيعيا" بحكومة أغلبية وطنية بقيادة صدرية برئيس وزراء توافقي، ولكن بمقابل حفظ مكانة الأطراف الخاسرة التي تفاوض على أبسط المكاسب لديمومة وجودها العملية السياسية وليس الانهيار والتلاشي لكون أن أغلب التنظيمات هي مجرد أسماء وأشخاص دون برامج وهياكل تنظيمية.