مقالات مختارة

حين يكون الشمال السوري قضية عراقية

معاذ البدري

ثلاثة منطلقات حَدَت بهيئة علماء المسلمين في العراق في حملتيها الإنسانيتين المنجزة الطارئة ونظيرتها الكبرى التي تُعدُّ العدةُ لها – في نجدة ومساعدة أهلنا في الشمال السوري المحرر، الذين تفاقمت أوضاعهم على كافة الأصعدة أكثر من أي وقت مضى، بعد الزلزال المدمر الذي ضرب المنطقة مؤخرًا، فضلاً عن استمرار زلزال الطغيان الذي يسلطه نظام دمشق دون هوادة على مرأى ومسمع الرأي العام الذي كانت صخور الأرض أكثر رقة منه في التحرك والهبوط.
أول خطوة اتخذتها الهيئة في هذا الشأن كانت عبر الدافع الشرعي، إذ كما هو معلوم أن الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق جملة من المقاصد الكلية، للحفاظ على الضروريات الخمس الرئيسة في الحياة، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال، وجميع هذه متحقق في مناطق الشمال السوري المحرر بعد النكبة التي لحقت بأهلنا هناك، وقد أصّلت الهيئة في بيانها المتصل بهذا الموضوع؛ أن الفرض الشرعي بنوعيه: فرض العين وفرض الكفاية اجتمع على الأمة في حق أبنائها في الشمال السوري، وقد استوجب واجبا الوقت والمكان ذلك أيضًا؛ بعد أن تحققت فيهم كل أنواع الضرورة.

الروابط الوثيقة

والمنطلق الآخر الموائم للأول يتجسد برباط الأخوة بين الشعبين العراقي والسوري، ففضلاً عن الروابط الوثيقة والمشتركات التي تجمعهما على مر التاريخ، فإنهما في هذه المرحلة يواجهان عدوًا واحدًا يحتل أرضيهما ويعيث فيهما فسادًا؛ وهو النظام الإيراني وميليشياتُه وأدواتُه في حكومة بغداد ونظام دمشق، في حين يعد الدافع الإنساني في ظل الظروف القاهرة التي رافقت الزلزال، والانحطاط الذي وقعت فيه المنظمات الدولية التي تتشدق بشعارات حقوق الإنسان دون أفعال ما بين تخلٍ تام عن نجدة أهلنا في الشمال وبين توريد المساعدات عن طريق النظام الذي حرم السوريين منها، هو المنطلق الثالث للعطاء الذي تسعى هيئة علماء المسلمين في العراق بجد لزيادته وإفشائه على أوسع نطاق ممكن.
كل ذلك يعطي المراقب تصورًا عن المدى المتحقق من جهد الهيئة الإنساني وما يتعلق به من نجدة أهالي الشمال السوري الذين ما زالوا بحاجة ماسة للكثير من الجهد على كافة المستويات، ولا سيما عند النظر إلى حجم جرائم الحرب بكافة أنواعها التي يرتكبها النظام في عالم مرد على النافق، وتمادى في التغاضي عمّا يجري طيلة السنوات الماضية.
التذكير بموقف الهيئة هذا -وهي الفقيرة مالاً والمضيق عليها إعلاميًا وسياسيًا – واجب وضرورة، وغايته أمران، أحدهما: بيان دور ولاة الأمر من العلماء وطلبة العلم في إدارة شؤون الناس والحفاظ على مصالحهم العامة بصرف النظر عن الحدود والانتماءات القطرية في زمان خلا من السلطان الشرعي المعتبر، والآخر: إظهار البون الشاسع في المواقف الشرعية والأخلاقية والإنسانية والسياسية على حد سواء بين الهيئة التي تعد مثابة للقوى العراقية المناهضة للاحتلال والعملية السياسية في العراق، وبين ذلك الصنف الذي حاول أن يجعل من نفسه ندًا لها فاتخذ طريق الانتخابات والدخول في العملية السياسية تحت ذريعة استرداد الحقوق والتوازن وغير ذلك من ضروب التمنّي الذي لا ينفك عن المستحيل.

المجموعة العربية

ما يدعو إلى هذا الربط، هو الموقف المخزي لما تسمى “المجموعة العربية للاتحاد البرلماني العربي” التي يرأسها صاحب منصب “رئيس مجلس النوّاب” في بغداد؛ حينما صدّرت موقفها الأخير على أنه فرض لحالة التطبيع مع نظام بشار الأسد المجرم، وأجرت زيارة “رسمية” لدمشق ليصافح أعضاؤها يد الطاغوت الملطخة بدماء السوريين والملوثة بغبار أنقاض مساكنهم ومدنهم التي أحالتها براميله المتفجرة وقنابله المحرمة أثرًا بعد عين!
إن التأريخ يدوّن بلا مواربة أن رئيس دورة “مجموعة الاتحاد البرلماني العربي” الحالية؛ والذي طالما تحدث مرائيًا عن “كسر الظهر” حينما يتعلق الأمر بمزايدات أو تنافس على مكاسب سياسية أو في سباق انتخابي – في إشارة إلى مزاعم الحزم في التعامل مع الخصوم – صادق على “كسر ظهر” كل من قبل بالعملية السياسية واتخذ من الدخول إلى “مجلس النواب” في بغداد غاية كبرى وصنمًا يُعبد؛ حينما ساقته طهران إلى التورط بجريمة إعادة العلاقات مع نظام الأسد على “المستوى البرلماني”، وأخذ يسعى ومجموعته نحو إعادة دمشق إلى ما يسمونه “الحضن العربي” الذي ظهر في هذه الخطوة أنه ذليل أمام السطوة الإيرانية المحظية بتأييد الغرب.
إعادة العلاقات مع نظام دمشق على المستوى “الرسمي”، ومثلها إعادة العلاقات معه من جانب جماعات وحركات يفترض أنها ذات فكر وعقيدة تناهض الطغيان؛ هي شراكة صريحة ومعلنة في تحمل مسؤولية دماء أهلنا في سوريا التي تراق على مدى يزيد عن عقد من الزمن، وليس في اختيار توقيت نكبة الزلزال المدمر للمصادقة على هذه العلاقات؛ إلا دليل على أن مأساة السوريين وحياتهم وحقوقهم لا تعني شيئًا لأصحاب هذا التطبيع وللراغبين في انتقال اللوث إلى أيديهم بمصافحة بشار الأسد والإقرار بـ”شرعية” نظامه من منظور السياسة الدارجة في العالم ورأيه العام.
والأمر في هذا السياق ليس مقتصرًا على “مجلس النواب” فأزمة الزلزال وتداعياتها في الشمال السوري أظهرت تمايزًا واضحًا بين معادن كثيرة، ومثلما رفعت شأن هيئة علماء المسلمين في العراق وبشهادة علماء وناشطين وجمعيات إغاثية في مناطق الشمال السوري المحرر؛ فإنها فضحت نفاق حكومة بغداد التي زعمت تقديم المساعدات عبر ميليشيات “الحشد الشعبي” هذه الميليشيات التي تلطخت أيديها بدماء العراقيين والسوريين، في الوقت الذي يعاني النازحون العراقيون والسوريون في مخيمات “كردستان العراق” والأنبار وغيرها من ظروف لا تمت إلى الإنسانية بصلة؛ حيث يفتقدون لكل شيء، ولا يملكون من وسائل استمرار الحياة غير الهواء، فضلاً عن أن هذه المساعدات المزعومة لم ولن تصل إلى المتضررين في الشمال وإنما تذهب إلى النظام المجرم، وقد وردت تقارير سلط ناشطون الضوء عليها تفيد أن العديد من المواد الغذائية التي زعمت بغداد إرسالها إلى سوريا تباع في أسواق المناطق الخاضعة لسيطرة نظام دمشق.

إعادة «الشرعية»

إن محاولات إعادة “الشرعية” لنظام مجرم متورط بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية على حساب القضية السورية؛ تنتج مآلات خطيرة؛ فهي في عمومها نصرة للباطل واصطفاف في خندقه، فيكون المتورط بالتطبيع مع بشار ونظامه الموغل بدماء أهلنا السوريين مشابهًا للمتورط في التطبيع مع الكيان الصهيوني الموغل في دماء أهلنا في فلسطين، وكلا الطرفين شريك في تحمّل الوزر والمسؤولية.
هيئة علماء المسلمين في العراق أدركت ثم استشرفت منذ سنين خلت، أن اعوجاج المسارات السياسية المناقضة للشريعة الإسلامية لا يجبره التذرع بالمصلحة أو الضرورة الموهومة، وأن وبال سلوكها كبير ليس على مستوى العقيدة والشريعة فقط بل حتى على مستوى الأخلاق والقيم، وقد هوى أولئك الذين أعربوا عن تضامنهم مع بشار الأسد وهو الجاني ابتداءً على ضحايا الزلزال، وهلك في الخطيئة من قدّم المساعدات لدمشق بينما يموت أهلنا في الشمال من العوز والنقص وقلة ذات اليد.
إن لنا في التأريخ عبرة، فإن مشركي قريش حينما حاصروا النبي – صلى الله عليه وسلم – وبني هاشم في شِعب أبي طالب حصارًا خانقًا استمر سنوات، تداعت قبائل من العرب – وهم أهل جاهلية – للأخذ على ظلم قريش ومشركيها آنذاك، فإذا كانت النخوة العربية لدى الجاهليين متقدة رغم ضلالهم؛ فما بال المحسوبين على تيارات ومؤسسات وحركات إسلامية النزعة والتوجه يلوون رؤوسهم عن تطبيق هذه القيم رغم أنهم أحق بها وأهلها؟!

كاتب من العراق