مقالات مختارة

فائض السيولة وأزمة السياسة النقدية

يحيى الكبيسي

نفى محافظ البنك المركزي علي العلاق، في تصريح لوكالة الأنبار العراقية 2024 وجود مشكلة سيولة، وأن «ما يثار ويشاع عن وجود مشكلة في سيولة الدينار العراقي عار عن الصحة، وأن البنك المركزي مستمر في إجراء عملية الاستجابة للطلبات المتعلقة بالسيولة وكذلك وزارة المالية»!
بعد هذا التصريح بأسبوع واحد فقط، وتحديدا في 3 آذار، أصدر خبراء صندوق النقد الدولي بيانا عقب نهاية مشاوراتهم مع السلطات العراقية في عمان (التي جرت في الوقت نفسه الذي صدر فيه تصريح محافظ البنك المركزي العراقي) جاء فيه أن ثمة «تراجعا حادا» في مركز المالية العامة في العراق، من فائض مقداره 10.8٪ من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022، إلى عجز مقداره 1.3٪ في العام 2023، وعزا البيان ذلك إلى انخفاض الإيرادات النفطية، وزيادة الإنفاق بنسبة 8 نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي بسبب الزيادة التي حصلت في التوظيف في القطاع العام!
أما فيما يتعلق بالسيولة، فقد تحدث البيان عن تشجيعه للجهود التي يبذلها البنك المركزي والهادفة إلى التخلص من «فائض السيولة» عبر زيادة سعر الفائدة، ورفع متطلبات الاحتياط الإلزامي، وإصداره أذون خزانة، وخفضه للإقراض المدعوم لقطاع العقار، لكنه يرى أن «عملية انتقال أثر السياسة النقدية ظل متواضعا بسبب السيولة النقدية الكبيرة»!
إن هذا التناقض بين حقيقة وجود «فائض سيولة» أي وجود كتلة نقدية كبيرة بالدينار العراقي، ونفيها رسميا، يعكس أزمة حقيقة في إدارة الملف المالي في العراق، كما يعكس، في الوقت نفسه، ضعف ثقة المواطن بالقطاع المصرفي، العام والخاص على السواء.
ووفقا للتقديرات فإن ثمة كتلة نقدية تصل إلى 35 ترليون دينار عراقي هي خارج إطار التداول، وخارج إطار الجهاز المصرفي، وهو ما يصل إلى ثلث الكتلة النقدية المصدرة التي وصلت إلى ما يزيد عن 100 ترليون دينار عراقي!
ومراجعة أرقام البنك المركزي العراقي تظهر أن حجم الكتلة النقدية المصدرة وصلت إلى ما يزيد عن 102.6 ترليون دينار عراقي عند نهاية شهر تشرين الثاني العام 2023، في حين لا يزيد حجم رؤوس أموال المصارف العاملة في العراق عن 9.1 ترليون دينار عراقي في نهاية العام 2023، وهذا يعني أن حجم الأموال المودعة لا يزيد عن 8.8٪ من حجم الكتلة النقدية المصدرة!
على أن أرقام البنك المركزي المعلنة على موقعه تتضمن أرقاما غير مفهومة، فهذه الأرقام توصل حجم العملة خارج البنوك إلى 94.6 ترليون دينار عراقي نهاية العام 2023، فيما تتحدث عن 19.06 ترليون دينار داخل

لكن أرقام البنك المركزي تظهر أيضا تصاعدا مبالغا فيه، وغير منطقي، في حجم الكتلة النقدية المصدرة خلال السنوات الخمس الأخيرة (2019 ـ 2023)؛ فوفقا لهذه الأرقام لم تزد الكتلة النقدية في نهاية العام 2013 عن 40.6 ترليون دينار عراقي، واستمرت في الزيادة، بشكل منضبط، وصولا إلى نهاية عام 2018 عندما وصلت إلى 44.2 ترليون دينار عراقي، بمعدل زيادة بحدود ترليون دينار عراقي سنويا، ليشهد العام 2019 قفزة في السيولة وصلت إلى 51 ترليون، ثم تكرر الارتفاع ووصل إلى 66 ترليون نهاية عام 2020، و 76.5 ترليون نهاية العام 2021، ثم 87.5 نهاية عام 2022، و إلى 101.48 ترليون دينار مع نهاية عام 2023؛ حيت تضاعفت الزيادة السنوية لتصل إلى معدل 10 ترليونات دينار!

تزامنت هذه القفزات في الكتلة النقدية المصدرة مع أزمة كورونا التي تسببت في انخفاض صادرات النفط العراقية، فضلا عن هبوط حاد في أسعار النفط (قدر سعر برميل النفط بـ 45 دولارا في الموازنة العامة الاتحادية لعام 2021 فيما كان مقدرا بـ 56 دولارا في موازنة العام 2019، ولم يكن هناك قانون للموازنة عام 2020 بسبب استقالة الحكومة حينها، وهو ما اضطر الحكومة العراقية إلى تغيير سعر صرف الدينار العراقي 1190 دينارا مقابل الدولار الواحد، وهو سعر التصريف المعتمد لدى البنك المركزي العراقي، إلى 1450 دينارا مقابل الدولار الواحد، أي بنسبة 21.8٪.
ترافق ذلك مع تغييرات في إدارة البنك المركزي؛ ففي أيلول 2020 أُقيل محافظ البنك المركزي علي العلاق وتعيين مصطفى مخيف، على خلفية رفضه إقراض الحكومة (التي كانت تواجه حينها عجزا حادا جعلها غير قادرة على تغطية رواتب الموظفين) ثم أُقيل المحافظ مصطفى مخيف في كانون الثاني 2023 وأعيد علي العلاق، لكن من الواضح أن هذه القفزات في حجم الكتلة النقدية لا ترتبط بتغيير المحافظين، بدليل أن عام 2023 شهد زيادة مقدارها 14 ترليون دينار عراقي مع وجود المحافظ الجديد!
وتماما كما شخصنا من قبل التدخل الحكومي المباشر في تحديد سعر الصرف، فبالتأكيد ثمة تدخل حكومي فيما يتعلق بحجم الكتلة النقدية، بسبب عجز البنك المركزي عن الحفاظ على استقلاليته، وبالتالي السماح للحكومة بالتدخل بشكل مباشر في صياغة السياسة النقدية وتنفيذها في العراق، وهو انتهاك صريح لقانون البنك المركزي نفسه. فلا أحد يريد تكرار تجربة محافظ البنك المركزي الأسبق الدكتور سنان الشبيبي الذي دفع ثمن رفضه لتدخل الحكومة في صياغة السياسة النقدية، ورفضه أيضا إقراض الحكومة كما يشترط القانون، بأن أصدرت مذكرة إلقاء قبض ضده، وهو خارج العراق لمنعه من العودة!
المفارقة هنا أن فائض السيولة الكبير الذي أُصدر في السنوات الخمس الأخيرة، لا علاقة له بالناتج المحلي الإجمالي، إذ لم يشهد هذا الناتج قفزات موازية للقفزات في الكتلة النقدية المصدرة، ففي العام 2019، على سبيل المثال، بلغ الناتج المحلي الإجمالي في العراق 233.6 مليار دولار وفقا لأرقام البنك الدولي، لينخفض إلى 184.4 مليار دولار في العام 2020، في حين سنجد أن البنك المركزي قد أضاف 15 ترليون دينار عراقي إلى الكتلة النقدية في العام نفسه!
كما أن لا علاقة بين حجم الكتلة النقدية المصدرة وسعر الصرف، بدليل أن البنك المركزي حافظ على معدل صدر 10.5 ترليون دينار في العام 2021 بعد تخفيض سعر الدينار مقابل الدولار، ثم عاد وصدر 13.98 ترليون دينار في العام 2023 بعد رفع سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار!
في نهاية العام 2020 أصدر البنك المركزي العراقي بيانا تحدث فيه عن «التشوهات الهيكلية في الاقتصاد العراقي التي أفقرت المالية العامة وقيدت قدرة الإصلاح، وإلى تغليب التفكير السياسي وأولويات السياسيين على الفكر الاقتصادي وأولويات التنمية، والأهم تغليبها على قواعد العلاقة بين السياستين المالية والنقدية» ومن الواضح أن هذه العبارات لم تكن سوى «سجال نظري» بدليل تورط البنك المركزي نفسه في هذه التشوهات وفي تغليب أولويات السياسة، بمفهومها الزبائني، على سياسته النقدية!

كاتب عراقي