عناوين الصحف

نيويورك تايمز: أمريكا حوّلت اقتصاد العالم إلى سلاح واستخدمته كوسيلة للتنمر والهيمنة

كتب المعلق في صحيفة “نيويورك تايمز” كريستوفر كولدويل، ومؤلف كتاب “تأملات في الثورة بأوروبا: الهجرة، الإسلام والغرب” مقالا جاء فيه أن لدى الولايات المتحدة مجموعة من الأدوات الجديدة للتنمر على العالم.

وقال إن الضرر الجانبي الأعظم لغزو روسيا العام الماضي لأوكرانيا، كان لعدد من الدول الغربية الأعضاء في حلف الناتو، وأنها وجدت فجأة مصالحها القومية تابعة لحليفها الأقوى.

فلطالما أرادت الولايات المتحدة من الأوروبيين التخلي عن عمودين يقوم عليهما اقتصادهم: الوارادت الرخيصة من الطاقة الروسية، وتصدير الصناعات المتقدمة للصين، حليفة روسيا.

ومع الغزو الروسي لأوكرانيا، أصبح هذان المطلبان أكثر إلحاحا، وأذعنت أوروبا بشكل عام للولايات المتحدة. فقد صوّت الاتحاد الأوروبي على قرار لحظر النفط الروسي في الأيام الأولى للحرب. وفي هذا الصيف، نشرت ألمانيا التي تعتبر من أكثر الدول اعتمادا على الصين، استراتيجية شاملة من أجل “نزع المخاطر” عن تجارتها مع بكين.

وكان ثمن استجابة أوروبا للمطالب الأمريكية باهظا، ففي حالة ألمانيا، يتوقع صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، أن يكون أداء ألمانيا الاقتصادي سيئا هذا العام، أكثر من أي اقتصاد في مجموعة الدول السبع. وبالتأكيد، هناك الكثير من الأسباب التي تفسر تباطؤ اقتصاد المانيا، فسعر الفائدة مرتفع، وتعرقلت سلاسل الإمداد بسبب وباء كورونا، والحرب في أوكرانيا، وتواجه صناعة السيارات منافسة من السيارات الكهربائية. ولم يساعد في الأمر الطلب من ألمانيا، كما كتب الباحث الاجتماعي ولفانغ ستريك في مجلة الشؤون الأمريكية أن تشارك “في حرب اقتصادية هي إلى حدّ ما حرب ضد ألمانيا نفسها”.

ورغم اعتبار معظم الأوروبيين روسيا تهديدا يقف على عتباتهم، إلا أنهم لا يشعرون بهذا الأمر تجاه الصين. وبحسب دراسة نشرها هذا الصيف، المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن غالبية الأوروبيين (نسبة 62%) عبّرت عن أملها ببقاء القارة الأوروبية محايدة في حال تصادمت الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان.

ولكن عندما دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأوروبيين للحفاظ على “الاستقلالية الاستراتيجية” في الأمور الصينية- الأمريكية، وعدم التورط في “كتلة ضد كتلة”، فإنه لم يوبَّخ من الأمريكيين فقط، ولكن من حلفاء أوروبيين بعينهم أيضا.

وكان من المعتاد أن يطالب الأوروبيون الإمبراطورية الأمريكية بمساحة للمناورة في أمور بالغة الأهمية. ففي 2002 و2003، رفض المستشار الألماني غيرهارد شرودر، والرئيس الفرنسي جاك شيراك، طلب الرئيس جورج دبليو بوش المشاركة في غزو العراق.

لكن ماذا تغير الآن لكي تُمنح المطالب الأمريكية المفضلة قوة مرسوم إمبريالي؟

وجزء من الجواب كامن في اعتماد الدول الأوروبية عسكريا على الولايات المتحدة، خاصة أنها لم تخصص في ميزانياتها إلا نسبة أقل من 2% من الناتج المحلي العام، لسنوات طويلة. وهي اليوم أكثر تبعية لأمريكا مما كانت عليه قبل عقدين. لكن النظام التي تحاول الولايات المتحدة تأكيد قوانينه لكل العالم، مرتبط بالاقتصاد لا القوة الغاشمة.

فقد استخدمت الولايات المتحدة وعلى مدى العقدين الماضيين، سلسلة من الأدوات الغامضة في العادة لمكافئة من يساعدونها ومعاقبة من يتجاوزنها.

ولم تعد هذه المجموعة من الأدوات غامضة الآن، والفضل يعود لباحثين سياسيين هما: هنري فاريل من جامعة جونز هوبكنز، وأبراهام نيومان من جامعة جورج تاون. ونشر الاثنان كتابا الشهر الماضي بعنوان: “الإمبراطورية السرية: كيف سلّحت أمريكا الاقتصاد العالمي”، وكشفا فيه عن الطريقة التي تنتفع بها أمريكا من المؤسسات التي بنتها في نهاية القرن الماضي، لتكون وسائل محايدة لتسهيل عمليات الأسواق العالمية. وتشمل هذه على الدولار ونظام الرسائل البنكية المعروف باسم “سويفت” ومركزه بلجيكا ويدار من مجلس دولي قابل للضغط الأمريكي.

ومما ساعد في الأمر، هو أن صعود الإنترنت، جعل الولايات المتحدة مقرا لمعظم بنى العالم السلكية التحتية والدوائر، بما فيها معظم مراكز الحوسبة السحابية مثل أمازون ويب سيرفيسيس، ومايكروسوفت وغوغل.

واليوم، تستطيع الولايات المتحدة، لو أرادت، مسح كل الاتصالات العالمية وسلاسل الإمداد. وبعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، قررت عمل هذا الأمر. وقامت بتطويع المؤسسات التي لها منفذ عليها وتحويلها  لسلاح دفاعي في حربها ضد الإرهاب “لحماية أمريكا” كما يقول فاريل ونيومان، و”حوّلت أمريكا ببطء وبشكل ثابت، الشبكات الاقتصادية المنتعشة إلى أداة هيمنة”.

ولقد تطلب الأمر مهارة أربع رؤساء أمريكيين لجعل الاقتصاد العالمي رصيدا استراتيجيا للولايات المتحدة، واستخدامه بشكل رئيسي ضد الصين وإيران وروسيا. وكان جورج دبليو بوش هو مَن مرر قانون الوطنية، وبنده الثالث ينص على منع الإرهابيين من تبييض الأموال داخل  النظام المالي الأمريكي، ولكنه انتهى ليعطي المنظمين الأمريكيين نفوذا على الكيانات المالية الأجنبية بكل الأنواع.

وفي منتصف إدارة باراك أوباما، استطاع المسؤولون الأمريكيون استخدام نظام سويفت لمنع المصارف الإيرانية، وهددوا المصرفيين السويسريين بالمحاكمة لو لم يفككوا السرية التي حافظوا عليها لقرون. وهو ما أنهى نموذج سويسرا البنكي القديم والمربح. وبات الأصدقاء والأعداء يخشون بشكل متزايد من هذا النظام.

وفي عهد دونالد ترامب، استخدمت شبكة القوة الأمريكية بحماسة منقطعة النظير، وأكملت خطة لتعطيل شركة الهواتف الصينية العملاقة “هواوي”. وكما يفصّل فاريل ونيومان في كتابهما، فقد ضغطت واشنطن على بنك “أتش أس بي سي” في لندن للتشارك ببيانات مع الولايات المتحدة. وقادت تلك البيانات لأدلة سمحت لكندا بالقبض على مديرة شركة “هواوي” في فانكوفر عام 2018. وفي حالة منفصلة العام التالي حاولت وزارة الخارجية رشوة كابتن بحري هندي متهم بنقل شحنات من النفط الإيراني، وتسليم سفينته في الميناء حيث يتم حجزها.

وفي عهد إدارة بايدن، كسرت الولايات المتحدة تقليد ثقة آخر كان يقيّدها قبل هجمات 9/11، حيث جمدت 7 مليارات من الأموال الأفغانية بعد انسحابها عام 2021، ثم وبمساعدة من حلفائها، جمدت احتياطات روسية في أعقاب غزو أوكرانيا عام 2022. وتقترح الولايات المتحدة استخدام هذه الأموال في أهداف ترى أنها مفيدة مثل تعويض ضحايا 9/11 في الحالة الأولى، وإعادة بناء أوكرانيا في الثانية.

وعلى خلاف الشكاوى الشعبوية الأوروبية، فكتاب فاريل ونيومان ليس شعبويا، وهذه نقطة القوة فيه. ففهْم الكاتبين للغزو الروسي لأوكرانيا بأنه حرب غير مبررة  من زعيم “لا يؤمن أن الحرب الباردة انتهت”، هو فهم يختلف قليلا عن وزارة الخارجية الأمريكية. وحتى عندما قدّما تنظيمات الإمبراطورية الأمريكية، فقد كان مجرد وصف أكثر منه شكوى. وألمحا إلى أنهما قد لا يشعران بالقلق من هذه الترتيبات لو استُخدمت لخدمة قضايا مهمة مثل حماية العالم من التغيرات المناخية وليس الهيمنة الأمريكية.

ومهما كان الغرض منه، فتحويل الاقتصاد العالمي إلى سلاح يظل أداة غير موثوقة بيد أمريكا. والمشكلة في الاقتصاد، كما حدث منذ الحرب الباردة، هي أن الجميع يتاجرون مع بعضهم البعض. فالدول التي تخشى أمريكا كثيرا، قامت ببناء ترتيبات بديلة.

وأظهر اقتصاد روسيا مرونة منذ العام الماضي رغم كل العقوبات الصارمة التي فُرضت عليه. ومن المؤكد أن تتبنى إيران والصين النموذج الروسي.

وبالمقارنة، فالدول الأكثر ودّا وصداقة مع الولايات المتحدة، مثل سويسرا قبل عقد، وألمانيا اليوم، عانت الأسوأ لأنها لم تقم بتحصين اقتصاداتها من السلاح الاقتصادي الأمريكي.